سورة الدخان - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الدخان)


        


قوله: {حم * والكتاب المبين} قد تقدّم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى، وإعراباً، وقوله: {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة} جواب القسم، وإن جعلت الجواب {حم} كانت هذه الجملة مستأنفة، وقد أنكر بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جواباً للقسم، لأنها صفة للمقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جواباً للقسم، وقال: الجواب {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، واختاره ابن عطية، وقيل: إن قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} جواب ثانٍ، أو جملة مستأنفة مقرّرة للإنزال، وفي حكم العلة له كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار، والضمير في {أنزلناه} راجع إلى الكتاب المبين، وهو: القرآن. وقيل: المراد بالكتاب: سائر الكتب المنزّلة والضمير في {أنزلناه} راجع إلى القرآن على معنى: أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزّلة: أنه أنزل القرآن، والأوّل أولى. والليلة المباركة: ليلة القدر كما في قوله: {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصكّ، وليلة القدر. قال عكرمة: الليلة المباركة هنا: ليلة النصف من شعبان.
وقال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أمّ الكتاب، وهو: اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة، وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] وقال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام. ووصف الله سبحانه هذه الليلة، بأنها مباركة لنزول القرآن فيها، وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا، ولكونها تتنزّل فيها الملائكة، والروح كما سيأتي في سورة القدر، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه ها هنا بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، ومعنى يفرق: يفصل، ويبين من قولهم: فرقت الشي أفرقه فرقاً، والأمر الحكيم: المحكم، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت، وبسط وقبض، وخير وشرّ، وغير ذلك، كذا قال مجاهد، وقتادة، والحسن، وغيرهم. وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة، وما بينهما اعتراض، أو مستأنفة لتقرير ما قبلها. قرأ الجمهور: {يفرق} بضمّ الياء، وفتح الراء مخففاً، وقرأ الحسن، والأعمش، والأعرج بفتح الياء وضم الراء، ونصب كل أمر، ورفع حكيم على أنه الفاعل. والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي: ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان، لأن الله سبحانه أجملها هنا، وبينها في سورة البقرة بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن}
[البقرة: 185] وبقوله في سورة القدر: {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1]، فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي الاشتباه {أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا} قال الزجاج، والفراء: انتصاب {أمراً} ب {يفرق}، أي: يفرق فرقاً، لأن أمراً بمعنى: فرقاً. والمعنى: إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك: يضرب ضرباً. قال المبرد: {أمراً} في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالاً.
وقال الأخفش: انتصابه على الحال، أي: آمرين. وقيل: هو منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، وفيه تفخيم لشأن القرآن، وتعظيم له.
وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب {أمراً} اثني عشر وجهاً أظهرها ما ذكرناه، وقرأ زيد بن علي: {أمر} بالرفع، أي: هو أمر {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} هذه الجملة إما بدل من قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، أو جواب ثالث للقسم، أو مستأنفة. قال الرازي: المعنى: إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} انتصاب {رحمة} على العلة، أي: أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج.
وقال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين أي: إنا كنا مرسلين رحمة. وقيل: هي مصدر في موضع الحال، أي: راحمين، قاله الأخفش. وقرأ الحسن: {رحمة} بالرفع على تقدير هي رحمة {إِنَّهُ هُوَ السميع} لمن دعاه {العليم} بكل شيء. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم قدرته الباهرة، فقال: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} قرأ الجمهور: {ربُّ} بالرفع عطفاً على السميع العليم، أو على أنه مبتدأ، وخبره {لا إله إلاّ هو}، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو ربّ، وقرأ الكوفيون: {ربّ} بالجرّ على أنه بدل من ربك، أو بيان له، أو نعت {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} بأنه ربّ السموات، والأرض، وما بينهما، وقد أقرّوا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع، وجملة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مستأنفة مقرّرة لما قبلها، أو خبر ربّ السموات كما مرّ، وكذلك جملة {يُحْيِي وَيُمِيتُ}، فإنها مستأنفة مقرّرة لما قبلها {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ، أي: هو ربكم، أو على أنه بدل من {ربّ السموات}، أو بيان، أو نعت له، وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه، وابن محيصن، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، والحسن بالجرّ، ووجه الجرّ ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجرّ في ربّ السموات {بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ} أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شكّ من التوحيد والبعث، وفي إقرارهم بأن الله خالقهم، وخالق سائر المخلوقات، وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزو، ومحلّ {يلعبون} الرفع على أنه خبر ثان، أو النصب على الحال.
{فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك؛ والمعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين، وقيل المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.
وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل: إنه من أشراط الساعة، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوماً.
وقد ثبت في الصحيح: أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة، وقيل: إنه أمر قد مضى، وهو ما أصاب قريشاً بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء، والأرض دخاناً، وهذا ثابت في الصحيحين، وغيرهما: وذلك حين دعا عليهم النبي بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، وكان الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وقيل: إنه يوم فتح مكة، وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدلّ على هذه الأقوال. وقوله: {يَغْشَى الناس} صفة ثانية لدخان، أي: يشملهم، ويحيط بهم {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: يقولون هذا عذاب أليم، أو قائلين ذلك، أو يقول الله لهم ذلك {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي: يقولون ذلك، وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، والمراد بالعذاب: الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، وشدّة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضاً ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه. {أنى لَهُمُ الذكرى} أي: كيف يتذكرون، ويتعظون بما نزل بهم والحال أن {قَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين، والدنيا {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} أي: أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه، بل جاوزوه {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي قالوا: إنما يعلمه القرآن بشر، وقالوا: إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء، وأنى لهم الذكرى. ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله: {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً} أي: إنا نكشفه عنهم كشفاً قليلاً، أو زماناً قليلاً، ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان، فقال: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} أي: إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا، فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعناد، وقيل المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث، والنشور، والأوّل أولى {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} الظرف منصوب بإضمار اذكر، وقيل: هو بدل من يوم تأتي السماء، وقيل: هو متعلق ب {منتقمون}، وقيل: بما دلّ عليه منتقمون، وهو ننتقم.
والبطشة الكبرى: هي: يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب، والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر.
وقال الحسن، وعكرمة: المراد بها: عذاب النار، واختار هذا الزجاج، والأوّل أولى. قرأ الجمهور: {نبطش} بفتح النون، وكسر الطاء، أي: نبطش بهم، وقرأ الحسن، وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة، وقرأ أبو رجاء، وطلحة بضم النون، وكسر الطاء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس {فِى لَيْلَةٍ مباركة} قال: أنزل القرآن في ليلة القدر، ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً لجواب الناس.
وأخرج محمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت، وحياة، ومطر، حتى يكتب الحاج: يحج فلان، ويحج فلان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدّل، ولا يغير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، ثم قرأ: {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة} الآية، يعني: ليلة القدر، قال: ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت، أو حياة، أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها.
وأخرج ابن زنجويه، والديلمي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح، ويولد له، وقد خرج اسمه في الموتى» وأخرجه ابن أبي الدنيا، وابن جرير، عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، وهذا مرسل، ولا تقوم به حجة، ولا تعارض بمثله صرائح القرآن. وما روي في هذا، فهو إما مرسل، أو غير صحيح.
وقد أورد ذلك صاحب الدرّ المنثور، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله: {في ليلة مباركة}.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن مسعود: أن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطئوا عن الإسلام قال: «اللهمّ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف»، فأصابهم قحط، وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} الآية، فأتي النبي فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فاستسقى لهم، فسقوا، فأنزل الله: {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}، فانتقم الله منهم يوم بدر، فقد مضى البطشة، والدخان، واللزام.
وقد روي عن ابن مسعود، نحو هذا من غير وجه، وروي نحوه عن جماعة من التابعين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت: لم؟ قال: طلع الكوكب، فخشيت أن يطرق الدخان. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، وكذا صححه السيوطي، ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية.
وقد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدّخان من آيات الساعة، وعلاماتها، وأشراطها، فقد وردت أحاديث صحاح، وحسان، وضعاف بذلك، وليس فيها أنه سبب نزول الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين، وغيرهما: أن دخان قريش عند الجهد، والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره، وغيره، وهكذا يندفع قول من قال: إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكاً بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن كثير قبل هذا: فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم، وروي أيضاً عن ابن عباس من رواية العوفي عنه، وعن أبيّ بن كعب، وجماعة، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضاً. انتهى.
قلت: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجنّ.


قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي: ابتليناهم، ومعنى الفتنة هنا: أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله، وأمروهم بما شرعه لهم، فكذبوهم، أو وسع عليهم الأرزاق، فطغوا وبغوا. قال الزجاج: بلوناهم، والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم، وقرئ {فتنا} بالتشديد {وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي: كريم على الله كريم في قومه، وقال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز، والصفح.
وقال الفراء: كريم على ربه إذا اختصه بالنبوّة {أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} {أن} هذه هي المفسرة لتقدّم ما هو بمعنى القول، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، والمعنى: أن الشأن، والحديث أدّوا إليّ عباد الله، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: بأن أدّوا؛ والمعنى: أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل. قال مجاهد: المعنى: أرسلوا معي عباد الله، وأطلقوهم من العذاب، فعباد الله على هذا مفعول به. وقيل المعنى: أدّوا إليّ عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله، فيكون منصوباً على أنه منادى مضاف. وقيل: أدّوا إليّ سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربكم. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} هو: تعليل لما تقدّم، أي: {رسول} من الله إليكم {أمين} على الرسالة غير متهم {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} أي: لا تتجبروا، وتتكبروا عليه، بترفعكم عن طاعته، ومتابعة رسله، وقيل: لا تبغوا على الله، وقيل: لا تفتروا عليه، والأوّل أولى. وبه قال ابن جريج، ويحيى بن سلام، وجملة {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} تعليل لما قبله من النهي، أي: بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها.
وقال قتادة: بعذر بين. والأوّل أولى، وبه قال يحيى بن سلام. قرأ الجمهور بكسر همزة {إِنّى}، وقرئ بالفتح بتقدير اللام {وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل، والمعنى: من أن ترجمون. قال قتادة: ترجموني بالحجارة، وقيل: تشتمون، وقيل: تقتلون {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي: إن لم تصدّقوني، وتقرّوا بنبوّتي، فاتركوني، ولا تتعرّضوا لي بأذى. قال مقاتل: دعوني كفافاً لا عليّ، ولا لي. وقيل: كونوا بمعزل عني، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا، وقيل: فخلوا سبيلي، والمعنى متقارب. ثم لما لم يصدّقوه، ولم يجيبوا دعوته، رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجرّ، أي: دعاه بأن هؤلاء، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول، وفي الكلام حذف، أي: فكفروا فدعا ربه، والمجرمون: الكافرون، وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرّد كونهم مجرمين، لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم {فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً} أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمره أن يسري ببني إسرائيل ليلاً، يقال: سرى وأسرى لغتان، قرأ الجمهور: {فأسر} بالقطع.
وقرأ أهل الحجاز بالوصل، ووافقهم ابن كثير، فالقراءة الأولى من أسرى، والثانية من سرى، والجملة بتقدير القول، أي: فقال الله لموسى أسر بعبادي {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} أي: يتبعكم فرعون، وجنوده، وقد تقدّم في غير موضع خروج فرعون بعدهم {واترك البحر رَهْواً} أي: ساكناً، يقال: رها يرهو رهواً: إذا سكن لا يتحرّك. قال الجوهري: يقال: افعل ذلك رهواً، أي: ساكناً على هيئتك، وعيش راه، أي: ساكن، ورها البحر سكن، وكذا قال الهروي، وغيره، وهو المعروف في اللغة، ومنه قول الشاعر:
والخيل تمرح رهوا في أعنتها *** كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد
أي: والخيل تمرح في أعنتها ساكنة، والمعنى: اترك البحر ساكناً على صفته بعد أن ضربته بعصاك، ولا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك، وبعد بني إسرائيل، فينطبق عليهم، فيغرقون.
وقال أبو عبيدة: رها بين رجليه يرهو رهواً، أي: فتح.. قال: ومنه قوله: {واترك البحر رَهْواً}، والمعنى: اتركه منفرجاً كما كان بعد دخولكم فيه، وكذا قال أبو عبيد: وبه قال مجاهد، وغيره. قال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد، وإن اختلف لفظاهما، لأن البحر إذا سكن جريه انفرج. قال الهروي: ويجوز أن يكون {رهواً} نعتاً لموسى، أي: سر ساكناً على هيئتك.
وقال كعب، والحسن: {رهواً}: طريقاً.
وقال الضحاك، والربيع: سهلاً.
وقال عكرمة: يبساً كقوله: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِى البحر يَبَساً} [طه: 77] وعلى كل تقدير، فالمعنى: اتركه ذا رهو، أو اتركه رهواً على المبالغة في الوصف بالمصدر {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} أي: إن فرعون، وقومه مغرقون. أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه، ويطمئن جأشه. قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك، وقرئ بالفتح على تقدير لأنهم. {كَمْ} هي الخبرية المفيدة للتكثير، وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء. قرأ الجمهور: {وَمَقَامٍ} بفتح الميم على أنه اسم مكان للقيام، وقرأ ابن هرمز، وقتادة، وابن السميفع، وروى عن نافع بضمها اسم مكان الإقامة {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فاكهين} النعمة بالفتح: التنعم يقال: نعمه الله، وناعمه، فتنعم، وبالكسر: المنة، وما أنعم به عليك، وفلان واسع النعمة، أي: واسع المال ذكر معنى هذا الجوهري. قرأ الجمهور: {فاكهين} بالألف. وقرأ أبو رجاء، والحسن، وأبو الأشهب، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة: {فكهين} بغير ألف، والمعنى على القراءة الأولى: متنعمين طيبة أنفسهم، وعلى القراءة الثانية: أشرين بطرين. قال الجوهري: فكه الرجل بالكسر، فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحاً، والفكه أيضاً: الأشر البطر. قال: {وفاكهين} أي: ناعمين.
وقال الثعلبي: هما لغتان كالحاذر، والحذر، والفاره والفره.
وقيل: إن الفاكهة هو: المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة. {كَذَلِكَ وأورثناها قَوْماً ءاخَرِينَ} الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي: الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدلّ عليه تركوا، أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، وقيل: مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم. فعلى الوجه الأوّل يكون قوله: {وأورثناها} معطوفاً على {تَرَكُواْ}، وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفاً على الفعل المقدّر. والمراد بالقوم الآخرين: بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين، أي: أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث، ومثل هذا قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها} [الأعراف: 137] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم. قال المفسرون: أي: إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم به، ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يبكي عليهم به، والمعنى: أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء، والأرض، أي: عمت مصيبته، ومن ذلك قول جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع
ومنه قول النابغة:
بكى حارث الحولان من فقد ربه *** وحوران منه خاشع متضائل
وقال الحسن: في الكلام مضاف محذوف، أي: ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس.
وقال مجاهد: إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً، وقيل: إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته، ومصاعد عمله {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي: ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم، وشدّة عنادهم {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين} أي: خلصناهم بإهلاك عدوّهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء واستحياء النساء، وتكليفهم للأعمال الشاقة، وقوله: {مِن فِرْعَوْنَ} بدل من العذاب إما على حذف مضاف، أي: من عذاب فرعون، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب، فأبدل منه، أو على أنه حال من العذاب تقديره: صادراً من فرعون، وقرأ ابن عباس: {من فرعون}؟ بفتح الميم على الاستفهام التحقيري كما يقال لمن افتخر بحسبه، أو نسبه: من أنت؟ ثم بيّن سبحانه حاله، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي: عالياً في التكبر والتجبر من المسرفين في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض} [القصص: 4]. ولما بيّن سبحانه كيفية دفعه للضر عن بني إسرائيل بيّن ما أكرمهم به، فقال: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} أي: اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك، وليس المراد: أنه اختارهم على جميع العالمين بدليل قوله في هذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقيل: على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم، ومحل {على علم} النصب على الحال من فاعل {اخترناهم} أي: حال كون اختيارنا لهم على علم منا، و{على العالمين} متعلق باخترناهم {وءاتيناهم مِنَ الآيات} أي: معجزات موسى {مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ} أي: اختبار ظاهر، وامتحان واضح لننظر كيف يعملون.
وقال قتادة: الآيات إنجاؤهم من الغرق، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المنّ والسلوى لهم.
وقال ابن زيد: الآيات هي: الشرّ الذي كفهم عنه، والخير الذي أمرهم به.
وقال الحسن، وقتادة: البلاء المبين: النعمة الظاهرة كما في قوله: {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} [الأنفال: 17]، ومنه قول زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو ***
والإشارة بقوله: {إِنَّ هَؤُلآء} إلى كفار قريش، لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر {لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي: ما هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها في الدنيا، ولا حياة بعدها، ولا بعث، وهو معنى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي: بمبعوثين، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى، بل المراد: ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، قال الرازي: المعنى: أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلاً، وهو: حجة داحضة، فقالوا: {فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا} أي: ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تقولونه، وتختبرونا به من البعث. ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} أي: أهم خير في القوّة والمنعة، أم قوم تبع الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه، وغلب أهلها، وقهرهم، وفيه وعيد شديد. وقيل: المراد بقوم تبع: جميع أتباعه لا واحد بعينه.
وقال الفراء: الخطاب في قوله: {فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا} لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده كقوله: {رَبّ ارجعون} [المؤمنون: 99]، والأولى أنه خطاب له، ولأتباعه من المسلمين والمراد ب {الذين مِن قَبْلِهِمْ} عاد، وثمود، ونحوهم، وقوله: {أهلكناهم} جملة مستأنفة لبيان حالهم، وعاقبة أمرهم، وجملة {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليل لإهلاكهم، والمعنى: أن الله سبحانه قد أهلك هؤلاء بسبب كونهم مجرمين، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرماً مع ضعفه، وقصور قدرته بالأولى.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا} قال: ابتلينا {قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} قال: هو: موسى {أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} أرسلوا معي بني إسرائيل {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} قال: لا تعثوا {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِين} قال: بعذر مبين {وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} قال: بالحجارة {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي: خلوا سبيلي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله: {أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} قال: يقول: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، وفي قوله: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} قال: لا تفتروا وفي قوله: {أَن تَرْجُمُونِ} قال: تشتمون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {رَهْواً} قال: سمتا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {رَهْواً} قال: كهيئة، وامضه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً: أنه سأل كعباً عن قوله: {واترك البحر رَهْواً} قال: طريقاً.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أيضاً قال: الرّهو: أن يترك كما كان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أيضاً في قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال: المنابر.
وأخرج ابن مردويه، عن جابر مثله.
وأخرج الترمذي، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والخطيب عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد إلاّ وله بابان: باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات، فقداه، وبكيا عليه»، وتلا هذه الآية {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام صالح، فتفقدهم، فتبكي عليهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس.
وأخرج أبو الشيخ عنه قال: يقال: الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، ألا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه، إلا بكت عليه السماء والأرض»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} ثم قال: «إنهما لا يبكيان على كافر».
وأخرج ابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر من طريق المسيب بن رافع، عن عليّ بن أبي طالب قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء، ثم تلا الآية.
وأخرج ابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: إن الأرض لتبكي على ابن آدم أربعين صباحاً، ثم قرأ الآية.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم» وأخرجه أحمد، والطبراني، وابن ماجه، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله، وروي نحو هذا عن غيرهما من الصحابة، والتابعين.


قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: بين جنسي السماء، والأرض {لاَعِبِينَ} أي: لغير غرض صحيح. قال مقاتل: لم نخلقهما عابثين لغير شيء.
وقال الكلبي: لاهين، وقيل: غافلين. قرأ الجمهور: {وما بينهما} وقرأ عمرو بن عبيد: {وما بينهنّ} لأن السموات، والأرض جمع، وانتصاب {لاعبين} على الحال {مَا خلقناهما} أي: وما بينهما {إِلاَّ بالحق} أي: إلا بالأمر الحق، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال.
وقال الكلبي: إلا للحق، وكذا قال الحسن، وقيل: إلاّ لإقامة الحق، وإظهاره {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك، وهم المشركون {إِنَّ يَوْمَ الفصل ميقاتهم أَجْمَعِينَ} أي: إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم، أي: الوقت المجعول لتمييز المحسن من المسيء، والمحقّ من المبطل، {أجمعين} لا يخرج عنهم أحد من ذلك.
وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر {إن} واسمها {يوم الفصل}. وأجاز الكسائي، والفراء نصبه على أنه اسمها، و{يوم الفصل} خبرها. ثم وصف سبحانه ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} {يوم} بدل من {يوم الفصل}، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل، أي: يفصل بينهم يوم لا يغني، ولا يجوز أن يكون معمولاً للفصل؛ لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي، والمعنى: أنه لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريباً، ولا يدفع عنه شيئاً، ويطلق المولى على الوليّ، وهو: القريب، والناصر {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى؛ لأنه نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم، أي: ولا هم يمنعون من عذاب الله {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} قال الكسائي: الاستثناء منقطع، أي: لكن من رحم الله، وكذا قال الفراء. وقيل: هو متصل، والمعنى: لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة، فيشفعون، ويجوز أن يكون مرفوعاً على البدل من {مولى} الأوّل، أو من الضمير في {ينصرون} {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} أي: الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه الرحيم لعباده المؤمنين. ثم لما وصف اليوم ذكر بعده، وعيد الكفار، فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} شجرة الزّقوم هي: الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها، فأكلوا منها، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات. والأثيم: الكثير الإثم. قال في الصحاح: أثم الرجل بالكسر إثماً، ومأثماً: إذا وقع في الإثم، فهو: آثم، وأثيم، وأثوم. فمعنى طعام الأثيم: ذي الإثم {كالمهل} وهو: درديّ الزيت، وعكر القطران. وقيل: هو النحاس المذاب.
وقيل: كلّ ما يذوب في النار {يَغْلِى فِى البطون * كَغَلْىِ الحميم} قرأ الجمهور: {تغلي} بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة، والجملة خبر ثانٍ، أو حال، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: تغلي غلياً مثل غلي الحميم، وهو: الماء الشديد الحرارة. وقرأ ابن كثير، وحفص، وابن محيصن، وورش، عن يعقوب: {يغلي} بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام وهو: في معنى الشجرة، ولا يصح أن يكون الضمير عائداً إلى المهل؛ لأنه مشبه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل، وقوله: {كَغَلْىِ الحميم} صفة مصدر محذوف، أي: غلياً كغلي الحميم {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَاء الجحيم} أي: يقال للملائكة الذين هم خزنة النار: خذوه، أي: الأَثيم، فاعتلوه، العتل: القود بالعنف، يقال: عتله يعتله، إذا جرّه، وذهب به إلى مكروه، وقيل العتل: أن يأخذ بتلابيب الرجل، ومجامعه، فيجره، ومنه قول الشاعر يصف فرساً:
نقرعه قرعاً ولسنا نعتله ***
ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً:
حتى تردّ إلى عطية تعتل ***
قرأ الجمهور: {فاعتلوه} بكسر التاء. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر بضمها، وهما: لغتان {إلى سَوَاء الجحيم} أي: إلى وسطه، كقوله: {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} {من} هي التبعيضية، أي: صبوا فوق رأسه بعض هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان، أي: عذاب هو الحميم، وهو: الماء الشديد الحرارة كما تقدّم {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي: وقولوا له تهكماً، وتقريعاً، وتوبيخاً: ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم. وقيل: إن أبا جهل كان يزعم أنه أعزّ أهل الوادي، وأكرمهم، فيقولون له: ذق العذاب أيها المتعزّز المتكرم في زعمك، وفيما كنت تقوله. قرأ الجمهور: {إنك} بكسر الهمزة، وقرأ الكسائي- وروي ذلك عن عليّ- بفتحها أي لأنك. قال الفراء: أي: بهذا القول الذي قلته في الدنيا، والإشارة بقوله: {إِنَّ هَذَا} إلى العذاب {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي: تشكون فيه حين كنتم في الدنيا، والجمع باعتبار جنس الأثيم. ثم ذكر سبحانه مستقرّ المتقين، فقال: {إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ أَمِينٍ} أي: الذين اتقوا الكفر والمعاصي. قرأ الجمهور: {مقام} بفتح الميم، وقرأ نافع، وابن عامر بضمها. فعلى القراءة الأولى هو: موضع القيام، وعلى القراءة الثانية هو: موضع الإقامة قاله الكسائي، وغيره.
وقال الجوهري: قد يكون كل واحد منهما بمعنى: الإقامة، وقد يكون بمعنى: موضع القيام. ثم وصف المقام بأنه أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف {فِى جنات وَعُيُونٍ} بدل من {مقام أمين}، أو بيان له، أو خبر ثانٍ {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} خبر ثانٍ، أو ثالث، أو حال من الضمير المستكنّ في الجار والمجرور، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، وقد تقدّم بيانه في سورة الكهف، وانتصاب {متقابلين} على الحال من فاعل {يلبسون}، أي: متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض، والكاف في قوله: {كذلك} إما نعت مصدر محذوف، أي: نفعل بالمتقين فعلاً كذلك.
أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} أي: أكرمناهم بأن زوّجناهم بحور عين، والحور جمع حوراء وهي: البيضاء، والعين جمع عيناء: وهي الواسعة العينين.
وقال مجاهد: إنما سميت الحوراء حوراء، لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل: هو من حور العين وهو: شدّة بياض العين في شدّة سوادها كذا قال أبو عبيدة.
وقال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين. قال أبو عمرو: الحور أن تسودّ العين كلها مثل أعين الظباء والبقر، قال: وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء حور: لأنهنّ شبهن بالظباء والبقر. قيل: والمراد بقوله: {زوّجناهم} قرناهم، وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال: زوّجته بامرأة.
وقال أبو عبيدة: وجعلناهم أزواجاً لهنّ كما يزوّج البعل بالبعل أي: جعلناهم اثنين اثنين، وكذا قال الأخفش {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة ءامِنِينَ} أي: يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم، والأسقام، والآلام. قال قتادة: آمنين من الموت، والوصب، والشيطان، وقيل: من انقطاع ما هم فيه من النعيم. {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} أي: لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا، والاستثناء منقطع، أي: لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا، كذا قال الزّجاج والفراء، وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وقيل: إن {إلا} بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك، أي: بعد رجل عندك، وقيل: هي بمعنى: سوى، أي: سوى الموتة الأولى.
وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، وتفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً. واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية {ووقاهم عَذَابَ الجحيم}. قرأ الجمهور: {وقاهم} بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة {فَضْلاً مّن رَّبّكَ} أي: لأجل الفضل منه، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلاً منه {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي: ذلك الذي تقدّم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده، المتناهي في العظم. ثم لما بيّن سبحانه الدلائل، وذكر الوعد، والوعيد، قال: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك، فيتذكروا، ويعتبروا، ويعملوا بما فيه، أو سهلناه بلغتك عليك، وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} أي: فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم، وإهلاكهم على يدك، فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت، أو غيره، وقيل: انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر، والمعنى متقارب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} يقول: لست بعزيز، ولا كريم.
وأخرج الأموي في مغازيه، عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: «إن الله أمرني أن أقول لك: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى}» [القيامة: 34، 35] قال: فنزع يده من يده، وقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر، وأذله، وعيره بكلمته، وأنزل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} قال: المهل.
وأخرج عنه أيضاً: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} قال: هو أبو جهل بن هشام.